18 - 09 - 2024

وجهة نظري| الحل هو الحبل

وجهة نظري| الحل هو الحبل

"الحل هو الحبل" اسم برنامج شهير لا يعرفه سوى العواجيز أمثالى .. كانت تقدمه الراحلة جالا فهمي، لا تسعفى الذاكرة الآن لتذكر تفاصيل ومحتوى البرنامج .. كل ما أتذكره أن اسم البرنامج صار جملة مأثورة نستعين بها كلما أعيتنا الحيل وعجزنا عن إيجاد مخرج مشاكلنا.

قفزت الجملة ذائعة الصيت فجأة إلى ذهنى بمجرد ماوقعت عيناي على صورة نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي لحبل  معقود كالمشنقة ومضئ  بأنوار صغيرة، بينما كتبت تحته كلمات موجعة "الضوء الذى ينتظرك في نهاية النفق المظلم".

كعادة المصريين تتجلى السخرية في أشد الأوقات صعوبة .. بابتسامة ضاحكة مبكية تشي بمدى الضيق المسكون خلف الوجوه المكتئبة المهمومة الحزينة.

لكن السخرية الموجعة هذه المرة فقدت تأثيرها، لم أستطع الضحك من شر البلية، بعدما طغت مرارة الألم ومحت معها أي محاولة للتنفيس بهدنة مؤقتة من الضيق، حتى لو جاءت متكلفة مصطنعة .

صورة الحبل المعقود أحالتنى لواقعة حزينة كان بطلها أب مأزوم، عجز عن تلبية احتياجات أسرته .. تفاقمت فواتير الكهرباء ولم يستطع سدادها، فانقطعت الكهرباء وعاشت أسرته في ظلام .. لم يكن أشد قبضة وحلكة من تلك العتمة التي سكنت روحه فأحكمت قبضة اليأس، ولم يجد مفرا من ذلك الأسر الخانق سوى الانتحار.

لم تكن تلك المأساة الوحيدة التي أوجعت قلوبنا، فقبلها بأيام قليلة كانت هناك مأساة أكبر لأب وأم انتحرا أيضا، بعدما ضاقت بهما الحياة وعجزا عن تلبية احتياجات أربعة أبناء.. نفوس ضعيفة، مريضة، قليلة الإيمان، لاتثق في قدرة الله على تبديل حالها وفك ضيقها وفتح باب الرزق لها من أوسع الأبواب! 

هكذا تنطلق ألسنة البعض متهمة مُدينة ملقية باللوم والتوبيخ والاستنكار على تلك النفوس الهشة المبتلاة بالشك والمزعزعة الإيمان .. بينما يتعاطف آخرون يشكلون الغالبية فيما أظن، ليس قبولا وتضامنا مع الحبل الذى يتخذه البعض حلا للأزمة. لكن مايحرك ذلك التعاطف هو تقدير للحالة التي أوصلت هؤلاء لتلك النهاية، بعدما احترق الكل بنيران الغلاء وبعدما تحولت الأسعار المرتفعة بجنون إلى غول يلتهم كل ما فى الجيوب في لمح البصر.

أصبح الجميع يلهث وراء سباق يبدو محموما لايتوقف، ترتفع السلع يوميا بل في اليوم الواحد لأكثر من مرة، حتى بتنا نشعر أن لكل نصف ساعة سعر جديد.

الغريب وسط تلك الحالة الخانقة غير المسبوقة أن يخرج علينا البعض بإفتكاسات غريبة، يسوقونها على أنها الحل السحرى لمواجهة الغلاء . يقترحون علينا ببلاهة أو بلا مبالاة من يضع يده في الماء البارد غير عابيء بالنيران التي تحرق نفوس الشعب المطحون، ينصحوننا بالمقاطعة والاستغناء والبحث عن بدائل موفرة، غافلين أو بالأدق متغافلين أن الغلاء طال جميع السلع فلم تعد هناك مايمكن اعتبارها سلعا ترفيهية، فحتى الأكلات التي كنا نعتبرها يوما شعبية طالها غول الغلاء ولم يعد بمقدور كثير من الأسر تناولها.

ولم تتوقف تلك الإستفزازات عنذ ذلك الحد، بل ذهب آخرون عن عمد أو ربما عن غير عمد إلى تخدير الأصوات التى تئن من وطأة الغلاء وتتخوف من أزمة تزداد تعقيدا وتخشى حالا أشد تأزما وضيقا، فتطالبها بالرجوع إلى الله والثقة فيه وعدم الشك في قدرته على تبديل الأحوال وإزاحة الغمة .. تذكرها بأن مع العسر يأتي دوما اليسر والفرج. لكنها تتناسى أن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن الأخذ بالأسباب هو أحد أهم القيم التي يحضنا الدين عليها.

لذك أرى أن أكثر التصريحات غرابة تلك التي صدرت عن دار الإفتاء والتي شددت فيه على ضرورة الالتزام بإخراج الزكاة لمساعدة الفقراء والمرضى واليتامى، وأن التوقف عن ذلك يؤدى إلى فساد اقتصادى كبير في المجتمع .. فضلا على أن يؤدى إما إلى موت هؤلاء الفقراء جوعا أو يدفعهم للانحراف.

تبدو التصريحات متوافقة تماما مع الشرع، لكن ماذا عن رأى الشرع في قرارات اتخذت على عجل ودون دراسة وتسببت في تلك الأزمة! ماذا عن فقه الأولويات التى غفلت عنه تلك القرارات! مامدى المسؤولية التى تقع على متخذى تلك القرارات! ومدى تحملهم للفساد الإقتصادي التى تحذر منه دار الإفتاء والانهيارالاجتماعى الذى يدفع إلى موت جوعا أو انتحارا أو يلقي بهم لهوة الانحراف!

ربما يأتي توجه الحكومة الأخير وقرارها بترشيد الإنفاق العام كاعتراف ضمنى بالمسئولية، خاصة بعدما أقرت بتأجيل البدء فى أية مشروعات جديدة لها مكون دولاري، وتأجيل الصرف على أية احتياجات إلا للضرورة القصوى، وكذلك ترشيد أعمال السفر خارج البلاد وبعد تحمل الجهة الداعية تكاليف السفر.

قرار سليم لكنه لم يجيء فقط متأخرا، لكنه أيضا لم يكن كافيا للطمأنة وبث قدر ولو ضئيل من أمل في قرب انتهاء الأزمة.. فأصبح مجرد تحصيل حاصل لم يخرج عن ذر للرماد في العيون، ومع ذلك لم ينجح في حجب الرؤية وفشل في مخاطبة المطحونين الباحثين عن حل حاسم وجذرى وفعال لأزمتهم بعدما بدت عصية على الحل.. بينما لسان حالهم يردد في صمت يائس مقهور "مستحيل اللى شبكنا يخلصنا "، بعدما فقدت الحكومة كل رصيدها من المصداقية .. وأصبح الحبل  للأسف هو الحل الوحيد في نظر البعض، بينما ينتظر البعض الآخر حلا من السماء، غافلين عن أنها لا تمطر ذهبا ولا فضة. وعلينا أن نعقلها دوما قبل أن نتوكل.
----------------------------
بقلم: هالة فؤاد

مقالات اخرى للكاتب

وجهة نظري | الموت قهرا